فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم", ثم عرضت سحابة في السماء فقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب"، وأخبر عليه الصلاة والسلام بوحي من الله بما يدور في خاطر قريش وما يتوقع منهم فقال: "لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: جدد العهد وزد في الهدنة" .
وكيف لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسية قريش وما يشغل بالها آنذاك وقد أعطاه الله عقلاً نيراً وفكراً ثاقباً وبصيرة لا تخطئ لأنه يسنده الوحي دائماً، فهذه قريش منزعجة من الحادث, مترقبة لرد الفعل, خائفة من العاقبة, وأكثرهم انزعاجاً قائدهم أبو سفيان الذي أخبر قريشاً عن رؤية رأتها زوجته هند كرهها وخاف منها, إذ رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف عند جبل بمكة مما جعل أبا سفيان يستنكر اشتراك قريش في القتال ونقضها للعهد ويقول: "والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني وهو صادقني، ومالى بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر". فقالت قريش: "قد والله أصبت الرأي" .
وهكذا جرت الأحداث بمشيئة الله تعالى الذي هيأ للمسلمين أمراً لم يفكروا فيه وظفراً لم يحلموا به, وقد علل الرسول عليه الصلاة والسلام لتلك المشيئة بقوله لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي تستبعد من قريش أن تنقض العهد وما لها مقدرة على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى بهم"، وتسأل عائشة: "خير أو شر يا رسول الله؟ قال: "خير".
وكيف لا يكون خيراً وهو سيحمل رسالة الإسلام إلى أهل مكة ومن حولها, يستظلون بظلها, وينعمون بفيئها, ويسعدون في الدنيا والآخرة بنشرها وحمايتها.
وما لبث أن جاء أبو سفيان كما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم يطلب شد العهد وزيادة المدة فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه على العهد والمدة, لا يغير ولا يبدل, غير أن الأمر لم يفت على ذكاء أبي سفيان وحنكته وتجاربه وخبرته فلم يطمئن قلبه ولم تهدأ نفسه فبحث عن وسيلة أخرى ينقذ بها قومه, فطلب من يتشفع به إلى رسول الله فبدأ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فاعتذر له برفق, وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأغلظ له القول ورده بعنف، واتجه إلى علي رضي الله عنه ومعه فاطمة رضي الله عنها وابنهما الحسن رضي الله عنه يلعب بين يديهما، فاعتذر له علي, وبلغ اليأس بأبي سفيان والحيرة في الأمر أن يطلب من فاطمة شفاعة الحسن لجده فتعتذر بصغر ابنها عن الأمر ثم ينصحه على نصيحة قبلها وعمل بها وليس له غيرها، فأعلن أبو سفيان في المسجد بين الناس أنه أجاره, ولكن هل يغني ذلك عنه شيئاً؟ ورجع أبو سفيان إلى قومه مهيض الجناح كسير القلب مشتت الفكر ليجد من قومه غلظة واستنكارا لإخفاقه وفشله في زيادة المدة وتمكين العهد.
استعداد المسلمين للحرب:
عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال قريش والظروف كلها لذلك والنصر مضمون بإذن الله لا سبيل لقريش في جمع العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بادرت بنقض العهد وتخطي المواثيق, فطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تجهز له وتكتم أمره وقال ما معناه: "اللهم خذ على قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة"، وحفظت عائشة كعهدها سر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عن أبيها الصديق الذي ذهب إلى رسول الله وسأله فأعلمه طالباً منه كتمان الأمر، وأخذ المسلمون يفكرون إلى أي يود الرسول أن يتوجه, وزيادة في الحذر والسرية يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن اضم في الطريق بين مكة واليمامة( ) فيحتار الناس في اتجاه الرسول ومقصده, ثم أرسل الرسول رسله إلى أهل البادية يطلب منهم أن يحضروا رمضان بالمدينة، وانتشرت رسله تحمل الدعوة إلى قبائل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وبني سليم وضمرة وبني كعب، وفي أثناء ذلك كله حدث ما أشار إلى مقصد رسول الله, فمثلاً في قصة حاطب بن أبي بلتعة تلك القصة التي تمخضت عنها تشريعات وتعاليم وإبراز لمكانة أهل بدر فما هي تلك القصة؟
رسالة حاطب:
قصة حاطب بن أبي بلتعة هي قصة النفس الإنسانية عندما تركن إلى بشريتها ويصيبها الوهن والضعف وهي خاضعة للتفكير في الأمر من زاوية ضيقة شخصية، فقد كتب إلى قريش يخبرهم بعزم الرسول على غزوهم، وكانت الرسالة موجهة إلى صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو - الذي وقع اتفاقية الهدنة مع الرسول وكتب بنودها نيابة عن قريش - وعكرمة بن أبي جهل، وجاء في رسالة حاطب "أن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم". وسلم الكتاب لامرأة من مزينة جعلته في شعرها وقد ضفرت شعرها عليه, وقد جعل لها أجراً على ذلك, إلا أن الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه بما فعل حاطب استجابة لدعوته بأن يخفى الله أمرهم على قريش، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وطلب منهما أن يدركا المرأة، فأدركاها وأنزلاها وفتشا رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها: "إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك" ولما علمت المرأة بجدهما وعزمهما على فعل ما قالا، حلّت ضفائرها وأخرجت الكتاب فجاءا به إلى رسول الله، فاستجوب حاطباً على فعله فأكد حاطب إيمانه بالله ورسوله وأنه لم يتغير أو يتبدل، لكنه أراد أن تكون له دالة على قريش لوجود أهله وولده بينهم، وثار عمر رضي الله عنه على حاطب وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه لأنه منافق في نظره، ولكن رسول الله يجيب: "وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع يوم بدر على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وتذكر بعض الروايات بأن الله سبحانه وتعالى أنزل بعد هذه الحادثة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} .
وفي هذه القصة نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يرد للصحابي اعتباره أمام المسلمين وقد عظم الأمر عندهم، وذلك لتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من صدق كلام حاطب، وتأكده من حسن إيمانه، وأن الأمر لا يعدو أن تكون حالة نفسية استسلم فيها الصحابي لحاجته. والرسالة نفسها في صيغتها تنبئ عن ذلك فقد قال لقريش: "إن رسول الله قد أذن في الناس" ولم يقل: إن محمداً كما يقول المنافقون.
والقصة لا تخلو من دروس للمسلمين في أهمية كتمان السر وإحاطة تحركات المسلمين بالسرية والتزام الجندي المسلم بتنفيذ الأمر من تجرد الإيمان, ثم فيها إشعار بعظم مكانة أهل بدر وما أعد الله لهم من نعيم مقيم.
خروجه صلى الله عليه وسلم :
عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في بئر أبي عنية ووزع المهام وقسم الرايات على الجيش الذي وصل إلى عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار والقبائل الأخرى وخرج بهم يوم الأربعاء العاشر من رمضان وهم صائمون في لفحة الحر وبعد الطريق. وقد نادى فيهم مناد الرسول صلى الله عليه وسلم يخيرهم بين الفطر والصوم، ولكن من الذي يهنأ بالفطر والرسول القائد صلى الله عليه وسلم صائم يضرب أروع الأمثال في الجلد والصبر والتخطيط والتدبير, وأصحابه يرونه يصب الماء على رأسه ووجهه من شدة العطش, ومع ذلك يأخذ الرسول عندما يصل إلى الكدية إناء مملوءاً بالماء في وقت العصر ويشرب منه وهو على راحلته ليراه الجميع وهو يقول فيما يرويه أبو سعيد الخدري: "إنكم مصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم" ومع ذلك يخبر أن قوماً تمادوا في الصيام فيقول: "أولئك العصاة".
ومع ذلك لم يكن المسلمون على يقين من وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يقصد قريشاً أم هوزان أم ثقيفاً مما جعل كعب بن مالك يذهب إليه ويبرك على ركبتيه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وينشده: